في ملكوت الله في اسماء الله الحسنى
تمهيد
اعلم سقاك الله كأس محجبته ، وألبسك خلع رضوانه وكرامته ، أن الذكر لا يُؤْتى ثمرته المرجُوَّة إلا بالتخلص من آثار الذنوب بالتوبة والاستغفار ، والإنابة إلى الله تعالى ، ولنذكر قول الحق جل ذكره : إنما التوبة عَلَى اللَّهُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِياً » . وقوله تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيم » . وقوله . تعالى : « وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَخَشَةٌ أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا ا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ » . وقال تبارك اسمه : « فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاستَغْفِرْ لِذَنْبِكَ » . وقال أيضاً : « وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ». وَقَالَ عَزَّمِن قَائِل : «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا . رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً » .
وقال : «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءوك فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيماً .. من هذه الآيات وأمثالها تُدْرِكُ فضائل
الاستغفار . كما تدركها من الأحاديث النبوية التي نذكر منها قوله عليه الصلاة
والسلام : ( مَن أَكثَرَ مِنَ الاستغفار جعل الله له من كل هَم فَرَجاً ، ومن كل
ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يَحْتَسِبْ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الأمان
الباقى الاستغفار ) ، ويقول الرسول الكريم ( مَنْ أَعْطِيَ الاستغفار لم يُحْرَمُ
مِنَ المغفرة ) ، وجاء في صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
سَيِّدُ الاستغفار : اللهم أَنْتَ رَبِّي ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ،
خَلَقْتَنِي وَأَنَا عبدُك ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما استطعتُ ،
أَعُوذُ بِكَ من شَرَّ ما صَنَعْتُ ، أَبُوه لَكَ بنعمتكَ عَلَى، وَأَبُوه بدني ،
فاغفرلى ؛ فَإِنَّهُ لَا يغفر الذنوبَ إِلَّا أَنْتَ . من قالها بالنهار وهو موقن
بها فمات من يومه قبل أن يُمْسِيَ فهو من أهل الجنة ، ومن قالها بالليل وهو موقن
بها فمات قبل أن يُصبح فهو من أهل الجنة
سَأَلَ بعض
الخواص إبليس : ما أَشَدُّ ما يكون عليك من ابن آدم ؟ قال : الاستغفار ، وأَكل
الحلال . فقال له : وماذا تفعل ؟ قال : لا أَزالُ عليهِ حتى أمنعه من الاستغفار ؛
ليغضت عليه الجبَّارُ ، وَأُطْعَمَهُ الحَرَامَ ؛ حتى يقف عمله عن الصعود إلى
الملأ الأعلى ، فإذا قَدَرْتُ عليه فلا أبالى ، ولو صلَّى كل يَوْمٍ أَلف ركعة . فانظر
مكايد الشيطان التى لا تنتهى ، وكن منه عَلَى حَذَر ، والله يهدى من يشاء إلى صراط
مستقيم . أَنَّ أَعْجَزَ الناسِ مَنْ عَجَزَ عن الدعاء والتضرع إلى بارىء هذه
الكائنات ؛ وكيف لا يكون ذلك وَالخَالِقُ يقولُ : « أَدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
» ، ويقول سبحانه : « . . فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ» ؟ والله لا يريد من خَلْقِهِ إِلَّا أَن يَعْبُدُوه وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » ، ولن يعبدوه إِلَّا إِذَا عَرَفُوه
، ولن يعرفوه إِلَّا إِذا ذكروه .
وقد سهل الله لنا طريق ذلك بقوله سبحانه : « وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءِ الْحَسَنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا » أَى : سبحوه واذكروه واعبدوه بها ؛ كى ترقى في ذلك إلى أسمى غاية ، ونشرب من رحيق المعرفة الكفاية . والرسول الكريم يقول : ( إِنَّ لِلَّهِ نسْعَةً و تسعينَ أسْماً ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجنَّةَ ) . ومعنى أحصاها : حَفِظَها ، وَوَعَاها ، وعَدَّهَا ، وَدَعَا بها ، وَكرَّرَ تِلاوَتَهَا مُتَخَلَّقاً بها ، عالماً بمعناها وَالله - سبحانه - سمى نفسه بما سماها ، وجميع الأسماء إلى ربِّكَ مُنْتَهَاهَا وَأَسْمَاء الله تعالى تَوْقِيفية ، وليست قياسِيَّةٌ ، وَالأسماء هِيَ صِفَاتُهُ العليا، وليست ذَاتَهُ ، فليس فى طاقة إنسان أن يتعرض للحديث عن ذاتِ الله ؛ لِقُصور العقل البشرى عن إدراك كنها ؛ ولهذا كلفنا بما في طاقتنا من تنزيه الأسماء ، قال تعالى : « فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظيم » و « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأغْلَى » . وَنُهِيناً . عن التفكر في ذاتِ اللَّهِ وَصُرِفْنَا إِلَى التَّفَكْرِ فِي خَلْقِهِ .. قال صلى الله عليه وسلم : ( تفكَّرُوا فى خَلْق الله ، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فى ذاتِهِ فَتَهْلِكُوا )
واعلم أن لكل اسم صفةٌ
ليست في غيره من الأسماء . وجميع ما يظهرُ فى الكون فهو من مقتضيات الأسماء .
والإنسانُ أسيرُ الأسماء ، فما يكاد الذاكر يترك اسما إلا ويستقبل اسماً آخر ،
إِذْ أَنَّ لكل اسم فَلَكًا وَسماءٍ وَعَرْشا يتجلّى فيها الحق ، وَ تَتَنَزَّلُ
مِنها حِكمته الخاصة من هذه الأسماء ، بأيدى سَدَنِةٍ من الأرواح الملائكية
النورانية ، على قلب الكلمة المحركة ، في الروح الخاص لهذا الاسم وَمَعْناه . فما
من شيء إلا ولطف الله مخزون فيه ، عَلَى مُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ الإِلهُيَّة
وَإِرَادَتِهِ الْأَزَليَّة
والله إنها
لَفَهُومُ ذَوْنِيَّةٌ ، وَإِشارات معنوية لقوم يتفكرون . ومن هنا تنطبع في
الأرواح بذكر الأسماء آثارها ، وَتُشْرِقُ على النُّفُوسِ أَنوارها . وكل ما في
الكون إنما هو من آثارٍ أَسماء الله ، وَمَا ثَمَّ إِلا أَسْمَاءه . وَقد خلق الله
الوجودَ دُونَ حاجةٍ إليهِ ، وَليسَ هُنَاكَ مَنْ أَوْجَبَ ذلك عليه ؛ وَمِن هنا
لا يخشى الإنسانُ في هذه الحياة شيئًا بقدر خوفِهِ من أَلَّا يعيش سعيداً ، خصوصًا
وَأَنَّ الحياةَ ماضية فى طريقها إلى ما قُدَّر لها ، لا يَصُدُّهَا شي عن مجراها
، وسبحان من « أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَه ثم هَدى » .
وَإِذَاء ذلك ليس أَمَامَنَا إِلَّا عمل الطاعات ، وَفَعلُ الخَيْرَاتِ ، وَمُناجاة الحق بأسمائه، وَالتَّخَلُقُ بِصِفَاتِهِ ؛ لأنَّ الإِنْسَانَ مَظْهَرُ لِلأسماء والصفات ، ومرآة لها ؛ كما أنه صُورة جامعة من الأسرار الإلهية ، والمعاني الرحمانية ؛ فقد تجلى الله على الأرواح باسمه الحى ، فكانت الحياة ؛ وَنَفَخَ في الإنسان من رُوحِه ، فكان سيد الأحياء ؛ وعلم آدم الأسماء ، فسجدت له ملائكة السماء . وأفاض على الشمس من اسمه النور .. فكان النور ، وكان الضياء . وهكذا .. يرسى الذاكر بنور اليقين ، ما غاب عن أفهام الغافلين ، ويدركُ بكثرة الذكر مواقع الأسماء والصفات ، وَلا يزالُ يَتَقَلَّبُ في خِلْعِ التجليات ، إلى أن تنقله العناية إلى الإنصاف بالأسماء والصفات .
وهكذا يسير في سماء العلم والحكمة على
نورٍ مِنْ رَبَّه ، والحجب تتفق من حوله شيئاً فشيئاً. يقع الشهود ، فإِذا حَصَلَ
الشهودُ ، استغنى عن الذكر بمشاهدة المذكور . وَهنا يقفُ القلم عاجزاً عن وضع
المعانى فى الألفاظ ، حيث لا قُدْرَةَ لكل أذَنٍ على سَماعِ مِثلِ هذا الكلام .
ولهذا يتجلَّى اللهُ بأَسمائه على عباده ، فترى آثارها في صُوَرِهِ ، وَأَلوانهم ،
وأحوالهم ، وَأَمزجتهم ، و تطوراتهم . وللأسماء تجليات شَتَّى، وَأَسْرارٌ لا
تَنَاهي ، وَإِن تناهت الأَيامُ وَالأَعمارُ أَوَلَم ينظرُوا في ملكوت السمواتِ
والأَرضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ من شيء ؟ » فإنَّ من تلك التجليات : اختلاف الليل والنهار
، والشمس والقمر ، والنجوم المسخَّرَاتِ ، وَتَنوع المخلوقات ، فى الصور واللغات ،
وَتَمَدَّدَ الأَشكال وَالألوان ، وتطور الأحوال في الإِنسان والحيوانِ ،
وَالنباتِ وَالجمادِ ، وَغير ذلك من بدائع المخلوقات ، وروائع المصنوعات.
وعظمةُ
الأَسْمَاء أَكْبَرُ من أن يُكْشَفَ عنها نِقَابٌ، أَوْ يصل إلى عَظَمَتِها أولُو
الألباب « هذا عَطَاؤنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَاب ) . فانظر - رعاك
الله - إذا حصل لك قبض ماذا تصنع ؟ تقول : يا باسط اصرف عَنِّى مَا أَنَا فيه .
وَإذا كنتَ عَاصِياً تقولُ : يَا تَوَّابُ تُبْ عَلَيَّ . وَإِذا كنت مريضاً تقولُ
: يَاشَافِي اشْفِنِي . وَإِذا كنت ضعيفاً تقول : يَا قَوِى قونى . وإذا كنت ضالّا
تقول : يَا هَادِى اهْدِنى . وإذا عطشت طلبت الماء فمن أنزله من السماء وإذا بحثنا
عن لذائذ الحياة وجدناها تدفعنا إلى الرذائل والآثام ، فمن فَتح للشر بابا
فُتِحَتْ أَمَامَهُ أَبْوَابٌ ، وهذه نَزَوَاتُ لا يَطْرُقُ بابَهَا أَحدٌ إِلَّا
يَسَّرَ له أسبابها الشَّيطانُ ، وأغراه من فنونها بألوان وألوان . فلندع الدنيا
ولنائِدها ، والتسبح في ملكوت الأسماء ؛ اشتغال بالله عما سواه .
فإذا ذكرنا (الله) علمنا أنه مُقدَّس فى ذاتِهِ وصفاتِهِ ، وأفعاله وأحكامه ، نه - عن شأنه - باق ببقائه ، والعبد باق بإبقائه . والله سبحانه ظاهر من حيث الصفاتُ والأسماء فى صُوَر الأشياء من غير أن يَحلَّ في شيء ، أو يَحِلَّ فيه شي . وإذا قلنا : ( رحمن ( أيقناً أنه - سبحانه وتعالى - مصدرُ الرحمة والحنان . وحين نقول : ( رزاق) نعلم أنه - وحده - المتكفل بالأرزاق ؛ وهكذا نذكر بقية الأسماء على هذا السياق .
والسعيدُ
من وفَقَهُ الله، فاشتغل بطاعة مولاه ، غَيْرَ مُعْتَمِد على عمله وتقواه. ومن
أراد الارتقاء فليعلم أَنَّ صفات الله لا تُدْرَكُ إلا بعد معرفة تأثيرها في الموجودات
. وبقدر مراتب العلم تكون درجات المعرفة ، ومثال ذلك - عند ذكر أسمه تعالى (رزاق)
- نَتَصَوَّرُ : كم من مَلَكِ وإِنسِ وَجَانَ ، ونبات وحيوان، وغير أولئك ،
يُرْزَقُونَ من أقواتِ المشاهَداتِ ، ما به حياتُهُمْ ؛ وَيُسْقَوْنَ من رحيق
المكاشفات ، مابه بقاؤهم . وتعجب معى ـ سيدى - كيف خلق الله الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْن » .. « وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى من فَوْقِهَا وَبَارَكَ فيها وَقَدَّرَ
فيها أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءٍ لِلسَّائِلِينَ » ! وسبحان من
كان ولا موجود غيره ، ولا رازق سواه .
ولعل من حكمة الله في ذكر أسمائه أن تتخلق بها : فَتَتَخَلَّقَ من الكريم بالكرم ، ومن الحليم بالحلم ، ومن الودود بالوداد ، وهكذا باقي الأسماء، وَفْقَ الأمر الوارد فى قوله صلى الله عليه وسلم : (تَخَلَّقُوا بأخلاق الله ) ، ومعنى هذا : أن جميع أسماء الله لخلق ، إلا اسمه تعالى : ( الله ) فإنه التعلق ، وبهذا تظهرُ آثارُ الأسماء على مَن تخلق بها ، كظهور الإمهال على من بالحلم ، وَعَدَمِ المؤاخذة على من تخلق بالعفو ، والعطاء على من تخلق بالجود.
وهكذا يكون ذكر باقى الأسماء تخلق واعلم
أن لكل اسم من أسمائه تعالى باباً يُوصل إليه وَمِعْرَاجاً يرقى عليه ، وروحانية
يصعد بها ، فنسيرُ الدَّعْوَةُ في هذه المدارج ، وتَصعَدُ عَلَى تلك المعارج ،
وَنَسْبَح في بُرُوج من نور ، مخترقةً الحجب والستور . فمتى جاوَزَتِ الدعوة فَمَ
قائلها ، تجسّدت فى صورتها ؛ حتى تصل خَالِقِها : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » ،
لتحميل الكتاب مباشرة اضغط على هذا الرابط